مقال صحفي

من نقد التراث إلى نقد العقل

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


السبت ٢٦ أكتوبر (تشرين الأول) ٢٠١٣
جريدة الحياة
عبدالإله بلقزيز


المنعطف الكبير، والجديد، في تاريخ دراسات التراث، كان انتقال الدراسات تلك من لحظة نقد التراث إلى اللحظة المعرفية الجديدة التي دشّنها مشروع نقد العقل؛ منذ ابتُدِئ فيه مع مطلع ثمانينات القرن العشرين الماضي. وهو (انتقالٌ) آذَنَ بإعادة بناء إشكالية التراث، في الفكر العربي المعاصر، على قواعد معرفية مختلفة. ولا شك في أن جامعاً بين اللحظتين ظل قائماً: النقد. لكنه صُرِف هنا، في وجهته الجديدة، نحو موضوع مختلف عن ذي قبل؛ ففيما كان النقدُ نقداً للموروث الثقافي العربي الإسلامي، وللقراءات المعاصرة لذلك الموروث، أصبح نقداً لآليات التفكير في ذلك الموروث، وفي القراءات السائدة له اليوم. وبعبارة أخرى، كان نقد التراث نقداً للمعرفة التراثية؛ لمضمونها، ومعطياتها الفكرية، ومناهج القدامى في البحث والتفكير والكتابة، وعلاقة ما أنتجوه بواقعهم الاجتماعي والثقافي والديني...إلخ، فيما أصبح النقد نقداً للعقل الذي أنتج تلك المعرفة، أي للبنى الذهنية والايبيستيمية الحاكمة للثقافة العربية، وللآليات المعرفية والمفاهيم المشتغلة داخل نطاق تلك الثقافة.

ولقد ارتبطت لحظةُ نقد العقل بالعمل العلمي الذي أنجزه الراحلان محمد أركون ومحمد عابد الجابري، منذ ثلث قرن؛ الأول في نقد العقل الإسلامي، والثاني في نقد العقل العربي. ومع أن مشتَرَكاً معرفيَّا قام بين العَمَليْن المتزامنيْن؛ في الموضوعة والغاية المعرفية من النقد، إلاّ أن مساحات الاختلاف بينهما في المناهج، والنظام المفهومي، وطريقة المقاربة، ومساحة الموضوع المقروء...، واسعة وغير قابلة للتجاهُل، لأسباب عدّة ليس أقلها الاختلاف في المصادر المعرفية، وفي عُدّة الاشتغال النظرية، وفي الاستراتيجية المعرفية. وقد يكون لمساحة الاختلاف هذه فضيلة إضاءة تلك الجغرافيا الفسيحة التي يفتحها - أمام الفكر - التفكير في العقل بما هو موضوع درس وبحث ايبيستيمولوجي، والكشف عن مناطق مجهولة في الموضوع تغري بالمغامرة المعرفية المشروعة، التي لا تَقدُّمَ للبحث العلمي، ولا تراكُمَ فيه، من دون خوضها بالجرأة المطلوبة.

من نافلة القول إن مشروع نقد العقل وُلِدَ، في تينك الصيغتين المومأ إليهما، من رحم الإصغاء الفكري للدرس المعرفي والايبيستيمي الجديد في الفكر الغربي المعاصر؛ في الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي المدرسة الفرنسية على نَحْوٍ خاص. والقارئ لأعمال محمد أركون ومحمد عابد الجابري لن يفوتَه أن يلاحظ الحضور الكثيف للمفاهيم المتداولة في الدرس العلمي الفرنسي المعاصر: الدرس الفلسفي، والسوسيولوجي، والأنثروبولوجي، والتاريخي، واللساني، والسيميائي...إلخ، كما لن يفوته الأثر الفكري الملحوظ لأطروحات لوي ألتوسير، وجان بياجي، وميشيل فوكو، عند الجابري، ولأطروحات ميشيل فوكو، وكلود ليفي ستروس، وبيير بورديو، وبنفنست، وبالاندييه، وبروديل... في أعمال أركون؛ فلقد بَدَتِ الثورة العلمية والمنهجية في العلوم الإنسانية شديدة الإغراء في أعمالهما، وبدَتِ المفاهيم الجديدة - المستخدمة في قراءة التراث الغربي الحديث: عند ميشيل فوكو مثلاً - ذات مفعول سحريّ في عَمَل الرجلين، سواء في تأسيس الإشكالية وموضوعة البحث، في وعيهما، أو في المفاهيم التي توسَّلاها للقراءة، واستعاراها منه ومن غيره من مفكري الغرب المعاصر.

ولهذه اللحظة المعرفية (لحظة نقد العقل) سمات تميّزها عن غيرها من لحظات المعرفة، في تاريخ دراسات التراث في الفكر العربي المعاصر، إن كان على صعيد الموضوع وجغرافيته الإشكالية، أو على صعيد أدوات البحث والدرس، أو على صعيد الرؤية إلى الغاية من دراسات التراث. يتعلق الأمر، إذن بسماتٍ ثلاث مميّزة؛

أوّلها أنّ مقاربة المسألة انطلاقاً من فكرة نقد العقل تفترض، موضوعيّاً، توْسعةً ملحوظةً في مجال الموضوع المدروس؛ ذلك أن العقل الذي يُرَاد نقدُه (أي بنية المعرفة وآليات التفكير المُرَاد تحليلهما) لا يَتَمَظْهر في مجالٍ ثقافيّ بعينه، وإنما يتجلى في مجالات الفكر والثقافة كافة. صحيح أن محمد أركون ومحمد عابد الجابري ميَّزا، داخل العقل (العربي أو الإسلامي)، بين العقل الديني (الثيولوجي عند أركون والبياني عند الجابري) والعقل الفلسفي (البرهاني عند الجابري)، وأنْصَفَا الثاني منهما، لكن هذا التمييز لم يَنْفِ أن العقل عندهما واحدٌ، ومُتَجَلّ في كل مجالات المعرفة في تاريخ الإسلام الثقافي. وهذا ما يفسّر لماذا وسَّعَا نطاق الدرس ليشمل علوماً كلاسيكية عدة (فقه، كلام، تصوف، لغة، نحو، فلسفة...)، وإن كان الجابري تفرَّد أكثر في دراسة العقل في تلك العلوم كافة.

وثانيها أن طرح مسألة الموروث الثقافي، من هذا المدخل العريض، يفرض على الدارس استخدام أدوات ومناهج عدّة في القراءة؛ فإلى أن فكرة التكوين (تكوين العقل) تفترض إعمال أدوات التاريخ الثقافي، فإن تحليل بنية العقل تضع الباحث فيها أمام الحاجة إلى توسّل أدوات القراءة الايبيستيمية لبنى المعرفة ومفاهيمها، بما في ذلك أدوات تحليل النص: من لسانيات، وسيميائيات، وأنثروبولوجيا ثقافية، وتحليل نفسي...إلخ. ولذلك، يجد قارئ مشروعيْ أركون والجابري نفسَه أمام مَعْرض للمناهج والمفاهيم عزَّ له النظير في التأليف العربي المعاصر، وأمام ورشة لتجريب مدى إجرائية الكثير من أدوات البحث العلمي على النصّ التراثي، العربي الإسلامي، ولقياس نسبة النجاعة في إعمال تلك الأدوات على موضوعٍ لم تنشأ - أصلاً - في رحابه.

وثالثها أن وضْع العقل موضعَ نقْد، يُخرج البحث في الموروث الثقافي من لعبة الصراع على مضمون الفكر فيه: تبجيلاً، من جانب، وإعداماً، من جانب آخر. أي أنه يُخرجه من دائرة السجال الأيديولوجي حوله، ومن فرضية استثماره كرأسمال، للتفكير فيه كموضوع معرفيّ بحت، لا يُبْحَث فيه على أكثر من الرغبة في المعرفة. وليس معنى ذلك أن لحظة نقد المعرفة تحرّرت، تماماً، من القيود الأيديولوجية التي ضُرِبَت على ميدان دراسات التراث، في الفكر العربي المعاصر، ولكن ليس من شك في أنها تخفَّفت نسبيّاً من ضغط الأسئلة الأيديولوجية الحاكمة، ومن تدخُّلها - الصريح والمقنَّع - في توجيه البحث وجهة الجواب عن فرضيات غير علمية. وهذا ما يفسّر الاحترام الملحوظ الذي حظيت به أعمال محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، من قِبَل القراء والدارسين، بصرف النظر عمّا إذا كان مثل ذلك الاحترام معياراً مناسباً لقياس مستوى العلمية في أعمالهما.

في كلّ الأحوال، لم تُنْهِ لحظة نقد العقل ما قبْلَها، لأن هذه استمرت تشتغل، لكنها نقلت التفكير في مسائل الموروث الثقافي نقلة نوعية في الموضوعات، والإشكاليات، وطرائق التفكير والتحليل...، وليس ذلك بالشيء القليل.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

Imprimer cette page (impression du contenu de la page)