الأريعاء 24 آب/أغسطس
إيلاف
عبد الجبار العتابي من بغداد : صدرت.. مؤخرا للقاص والروائي العراقي حنون مجيد عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة في الاردن روايته الجديدة التي تحمل عنوان (مملكة البيت السعيد)، اهداها الى روح الناقد الكبير الراحل الدكتور عبد الاله احمد، تقع الرواية في (242) صفحة من القطع المتوسطة وعبر اربعة وعشرين فصلاً حمل كل منها عنواناً خاصاً به، في الرواية يذهب الروائي الى تسجيل احداث ليست بعيدة لكنه يغور في تفاصيلها ليتعرف على حياة المجتمع العراقي في ظل الظروف الصعبة التي يعيشها تحت وطأة الحصار الاقتصادي ويحاول ان ان يستخرج كثافة الوجع الذي في النفوس ومن ثم يشرح احوال تلك النفوس وهي تكابد مرارات الفقر والعوز والحاجة.
ومحاولة منا للتعرف على حيثيات الرواية وشخوصها سألنا الروائي حنون مجيد عنها فقال: هي رواية يمكن عدها من الروايات السياسية التي تتشرب من معين الواقع الاجتماعي المتنوع الكثير من الثراء في البيئة العراقية، وهي من هذا المنطلق حاولت ان تدين واقعا اجتماعيا كان مستبدا وكان شموليا وكان التفاوت فيه، الطبقي والاجتماعي، صارما وعنيفا وشديدا وكان الحيف المسلط على الطبقات الاجتماعية الفقيرة حيفا ظالما ووحشيا واختلطت المقاييس في تلك الفترة بحيث اصبح الاسفل في الاعالي ويتصرف كما لو انه هو السيد، في حين ظلت الطبقات الاجتماعية صاحبة المصلحة النبيلة والعليا في الوطن وفي الوطنية في القاع وتعاني من الكثير من الحرمانات وتعاني من الحيف والظلم وهذا هو في المحصلة النهائية او الجذرية التي حاولت الرواية ان تلعب عليها.
واضاف: تنوع شخوص الرواية من المهندس الى المدرس الى المحامي والى الاخرين من ذوي الانتماءات الطبقية والاجتماعية البسيطة الى الملكة التي هي في الاساس لا تمتلك هذه الصفة الا مجازا، هؤلاء الاشخاص انما هم من صنع الخيال والواقع الاجتماعي واغلب ما اتصفوا به هو الواقع الاجتماعي لان منهم احياء حتى الان.
وتابع: بدأت بكتابة الرواية عام 2007 ولكن انصرافي الى العمل في جريدة طريق الشعب مسؤولا على صفحتها الثقافية وما كرسته لهذا العمل من جهد ووقت اوقف عملي في هذه الرواية ثم حينما انصرفت اليها تركت العمل في الجريدة وانجزتها في مدة تكاد تكون قياسية.
وفي الاخير اجاب عن تساؤلنا حول العنوان قائلا : (مملكة البيت السعيد) ربما هو عنوان كلاسيكي ولكن متطابق مع الواقع، لاتهمني الصفة التي ينتمي العنوان بقدر انتمائه الى لب الرواية ولو تأمل القاريء في هذا العنوان لوجد فيه الكثير من الاحالات الى اشياء اجتماعية وسياسية منها ان هذه الملكة هي في الاصل امرأة من مستويات منخفضة ولا يحق لها ان تكون ملكة الا اذا كان الوضع السياسي القائم يؤهل مثل هذه الشخصيات لتبوأ مثل هذه المكانة، ثم انها كانت سعيدة في الوقت الذي كان الحصار يدمغ الواقع الاجتماعي بدمغته القاسية السوداء الكالحة التي جعلت من المرأة الشريفة امرأة محتاجة تبيع حتى ملابسها على الارصفة بعد ان باعت ذهبها وبعد ان باعت اخشاب عرسها وبعد ان باع زوجها الكثير مما كان يمتلك من كتب واثاث ومقتنيات، هذا الواقع هو الذي جعل من هذه المرأة المنخفضة امرأة ترمي بنقودها الى (ابي ليث) من شرفتها العالية ليلتقطها وهي في الهواء او وهي على الارض من اماكن متفرقة، هذه المقاييس المقلوبة قلبت العبد الى ملك والملك الى عبد واعتقد ان وضعا مثل هذا الوضع هو غير مستو ويجب ان يعود الى نهايته المحتومة وقد آل الى النهاية المحتومة كما عبرت الرواية.
ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.
تم نقل هذا المقال بناء على ما جاء في الفقرتين 4-2 و4-3 من حقوق الملكية الفكرية المذكورة في شروط الأستخدام على موقع إيلاف :
- مسموح لك بنسخ أو تنزيل المقالات المنشورة على الموقع من أجل إعادة عرضها على مواقع أخرى بشرط أن تعرض تلك المقالات بنفس تنسيقها وشكلها.
- يجب وضع رابط للموقع بين عنوان المقالة والفقرة الأولى منها.
- كما يضاف البيان التالي في نهاية المقالة : ايلاف المحدودة للنشر جميع الحقوق محفوظة ايلاف المحدودة للنشر ترخص باستخدام هذه المقالة. لا يمكن إعادة نشر هذه المقالة دون التوافق مع شروط وبنود شركة ايلاف المحدودة للنشر.
وقد كتب ناطق خلوصي مقالاً نقدياً طويلاً ومفصلاً عن هذه الرواية على موقع الناقد العراقي بتاريخ 11 آب/أغسطس 2011 بعنوان :
تطل الحرب على قضاء المبنى السردي لـ « مملكة البيت السعيد، رواية حنون مجيد الأخيرة، وتلقي ظلها الثقيل عليه فتلونه بلون الرماد : لون الحزن والفجيعة والموت، الموت الذي يشكل المشهد الافتتاحي للرواية أول ملامحه وتلخصه جملة الاستهلال ” بموت سالي التي هوت من الشرفة المقابلة، تكون الملكة حزنت أبلغ أحزانها »، بما يومىء إلى المناخ الذي سيبسط سطوته على الأحداث.
لكأن الحرب صارت لعنة تلاحق العراقيين لتمسك بخناقهم، وهي ليست حرباً واحدة إنما سلسلة من الحروب ظلت تأكل لحمهم وتنهش أرواحهم وتستنزف أعصابهم على امتداد ثلاثة عقود من السنين وما زالت عقابيلها الثقيلة تجثم على صدورهم التي تنز دماً، حتى الآن.
يهدي الروائي روايته إلى « روح الناقد الكبير الدكتور عبد الإله أحمد »، وروح عبد الإله أحمد جديرة بأسمى آيات الوفاء والعرفان بالجميل. يلي الإهداء مقطع من صوت يوناني قديم يقول :
انك ترمين بنا في مجرى الحياة
ثم تتركينه لعذابه
لا.. ان على هذه الأرض يتم التكفير
عن كل خطيئة. وكأن في هذا الصوت دعوة إلى النسيان مع ان خطيئة الحرب عصيّة على التكفير.
تقع هذه الرواية (الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع ـ عمان ـ الطبعة الأولى ـ 2011) في 242 صفحة ويجزّئها الروائي إلى أربعة وعشرين فصلا ً: فصول قصار يتفرد كل منها بعنوان مستقل، لكن المتن يظل محتفظاً بتماسكه السردي وانسيابية تسلسل أحداثه على الرغم من هذا التجزيىء وهذه العناوين.
ولعل مما يلاحظ في « مملكة البيت السعيد » محدودية مكانها وزمانها الروائي وعدد شخصياتها، لكن هذه المحدودية لا تضيّق أفق تجليات الأفكار والمواقف التي تحكم مسار الأحداث والشخصيات. فالرواية تقدم عرضاً بانوراميا ً للحرب، ليس من خلال استحضار فعلها القتالي المباشر وإنما من خلال استحضار ما أفرزته من انعكاسات عن طريق الاستذكار أو الاسترجاع بشكل خاص.
يشكل المكان محوراً أساسياً في الرواية، وهو هنا ليس من صنع مخيلة الروائي إنما مجتزأ من بيئته المحلية وواقعه الحياتي : رقعة ضيقة من شارع في « السيدي ة » التي هي امتداد لمدينة « البياع » الشعبية غربي بغداد. هذا المكان ينشطر إلى مكانين في الواقع، مكانين متقابلين، أو لنقل عالمين متناقضين، يفصل بينهما نهر شارع يضيق مهما اتسع، ويمتد بينهما في الوقت نفسه بحر من القيم والمواقف. في الشطر الأول تنفرد بالاهتمام شقة الملكة (يظل اسمها الملكة حتى النهاية) التي تمارس تجارة الجنس وحولت هذه الشقة إلى ماخور توفر فيه خلوات لطالبي اللذة المحرمة، يأتون بعشيقاتهم ليستمتعوا في غرف الشقة الثلاث مقابل ثمن، أو انها توفر نساء سرير حسب الطلب. شقة الملكة عالم قائم بذاته، محاط بسياج من العزلة والكراهية يشعر ناس الحي الذي تتقدم واجهته انها دمّلة يعجزون عن تفجيرها أو بترها لأن الملكة ترفع مظلة حماية فوقها، فهي تقف « أشبه بالسد المنيع ، فحتى السنوات التي أعقبت حرب الكويت وتخلخل نظامها الداخلي وتفكيك علاقاتها بشخصيات من مقامات عالية ، لم تهن قوتها ولم تنهزم امام زوابع الشارع وتاسه (المساكين) إلا مرة واحدة وليست مرتين » (ص 24)، ولعلها المرة التي اقتحم فيها الشقة ضابط شرطة شاب شاهرا ً مسدسه تحت ذريعة حماية الفضيلة وإذا به يبتزها وينتزع منها سيارتها البيضاء الاوتوماتيك عنوة ً ويوفر لها الحماية بعد ذلك. الشقة مكان مغلق، يلتم على نفسه وعلى أسراره ويضج بالمتضادات منها انها تبدو مثل طارىء غريب فرض نفسه على حي آهل بالسكان، ومنها ان مراهقة بعمر الورد وجماله زُجّ بها في وسط عفن، ومنها أيضاًً انها تصبح ملاذا ً لمقاتل شجاع تنتهي حياته فيها.
في مقابل هذا المكان الذي يعلو الشارع، ينبسط دكان أبي ليث، المهندس الكفء الذي اضطرته ظروف الحرب والحصار لأن يدير دكاناً متواضعاً أصبح رديف بؤرة الاهتمام الأولى حيث يدور فيه جزء لا يستهان به من احداث الرواية. انه يقف منفتحاً على الناس في مواجهة شقة الملكة المنغلقة. ويبدو بادىء الأمر كأن الدكان ينفرد بمجال الرؤية وهو لوحده محور تواجد الزبائن في الشارع، لكن الروائي ما يلبث أن يؤثث هذا الجانب بمحلات أخرى مثل الصيدلية ومحل الحدادة وغيرها، وهي محلات لا تؤدي دوراً في الأحداث سوى كونها جزءً من الديكور الساكن للمشهد الروائي نفسه.غير أن مكتبة « آفاق » المجاورة للدكان تنفرد بموقع خاص. فهذه المكتبة يديرها الروائي نفسه، يفتح عينيه على ما يدور في الخارج، يرصد ويراقب ويدون وهو يكشف عن نفسه فيقول : « لقد شاهدت أنا صاحب مكتبة آفاق الذي يكتب هذه الرواية ، انطلاقة الشاب (يعني الضابط) وقد انطوت أصابعه حال انطلاقه على مسدس اسود صغير » (ص 174). غير ان للدكان وجهاً آخر فهو يتحول في الليل إلى خمّارة خاصة تجمع بين صاحبه أبي ليث وصديقه المحامي الذي يظل هو الآخر بلا اسم، قبل ان ينظم اليهما صالح، في سهرات خاصة تمتد حتى العاشرة ليلاً، تضيء الاحاديث التي تدور فيها جوانب من حيوات هذه الشخصيات وأفكارها ومواقفها وفلسفتها ويكون الحديث عن الحرب محوراً رئيسياً فيها.
اما الزمان (الزمان الروائي هنا) فهو محدود بالارتباط مع محدودية الأحداث ومكانها. لكن الزمان الواقعي مختلف تماماً فهو يمتد ليغطي ثلاثة عقود من السنين بدءاً من الحرب العراقية ـ الايرانية ومروراً بحرب الكويت وليس انتهاءاً بحرب احتلال العراق، بما رافق هذه العقود من مآسٍ وويلات عانى العراقيون فيها من آثار الحصار المدمرة ومن مفرزات الحروب الدموية التي كانت وراء حالات التخلخل الاجتماعي والتفكك السري. ان الرواية تكشف القناع عن الوجه القبيح للزمن العراقي الرديء، في اشارات خفية أو معلنة، تشفعها وخزات نفد لما آلت إليه حال بغداد. انها تتحدث عن أوضاع العراقيات أيام الحصار « وهن ّ يبعن ملابسهن على الأرصفة حفاظا ً على شرف مهدد ، أو زوجات يخنّ أزواجا ً مقهورين ينازعون الموت أو يموتون في برد العراء » (ص 183). لقد كانت المرأة العراقية ضحية أولى من ضحايا الحرب والحصار والممارسات الوحشية والمشينة. في مشهد يلقي الضوء على عمق معاناتها يصف الروائي كيف ان امرأتين كانتا في شقة الملكة ساعة مداهمة الضابط الشاب لها، ألقت احداهما بنفسها من الشباك فنقلت إلى المستشفى وهي بين الحياة والموت، اما الأخرى فقد اقتيدت إلى مركز الشرطة بمعية الملكة وهالها ان ترى في المركز « امرأة في غاية الجمال تصرخ علناً وفي هستيريا حادة تقترب من الجنون والمغامرة بالحياة، انتهاك شرفها تحت تهمة الحقت بزوجها الهارب إلى الخارج أوقفت عنها دون مسوغ من قانون. اما الرجال الذين جفت دماء رؤوسهم على شواربهم أو ما تزال تنز من اجزاء أخرى من أجسادهم، وركنوا في غرفة بائسة بلا طعام أو شراب، فلم يكن بينهم من يشير إلى انه سيبقى على قيد الحياة حتى يوم أو يومين » (ص 176).
يمثـّل الروائي إحدى شخصيات الرواية وهو ساردها : سارد عليم ملم بتفاصيل الأحداث وجغرافية المكان وملامح الشخصيات الذين يستعير ألسِنَتهم ويتحدث بها مثلما ينفرد بصوته الخاص أحياناً معقباً أو ملقياً الضوء على هذا التفصيل أو ذاك من وجهة نظره الشخصية وفلسفته الخاصة، تجمعه جفوة ونفور مع سكنة شقة الملكة. فالملكة لم يفتها « ان تلعن نفسها ، وهي كثيرة اللعن والسباب، بسبب إهمالها منذ أيام النظر إلى ذلك الذي يدعى بالروائي لتراه منكباً على دفتره يكتب فيه ما يغلق صدرها ويطيش بصوابها » (ص 91 ). اما الروائي فيقول في المقابل « استطعت أنا الروائي أن أتمتع بحريتي وأتخلص من رقابة امرأة مهلكة، كنت وإياها نتبادل اختلاس النظر بأسلوب رقابي كان كل منا يحاول عبره ان يطيح برأس صاحبه أو يتمنى » (ص 100) .لكن الملكة التي كانت ترى في الروائي عدواً لدوداً ما تلبث ان تغـيـّر رأيها فيه عندما جاءتها مريم بأوراق كان يكتبها استلتها خلسة من منضدته. اما مريم فقد أبدت رأيا ً متوازنا ً فيه. فهي تقول لأبي ليث « ذلك الروائي يختلف عنك بنظراته العدائية التي يطيل النظر بها إلينا، ومع ذلك فانني احسبه أحسن الناس هنا فهو غارق في أوراقه يكتب فيها فيها » (ص 104). ولا يتردد الروائي في ان يقول بأن شخصياته هي من صنعه. يزوره صالح لشراء هدية لمريم و « لما نقد صاحب المكتبة ثمنها متخايلا ً بهديته التي حسبها مفرحة، لم ينتبه إلى خيلاء الرجل نفسه، فهو لا يعرف انه يختبىء داخل أوراقه المتنائرة أمامه وانه من صنعه هو نفسه، من حبره وورقه » (ص 110).
يضع الروائي الملكة في الواجهة الأمامية لعمله ، ويخضعها لعملية تحليل فيكتشف المرء انها هي الأخرى ضحية حالة التخلخل الاجتماعي التي رافقت ظرف الحرب والحصار. كانت قد هربت من أهلها وهي في السادس الإعدادي بعد ان سقطت بإغواء شاب أحبته ومنّاها بالزواج وجاء بها إلى بغداد لكمها اكتشفت انه كاذب ومحتال تركها تنحرف وتنجرف في تيار امتهان الجسد حتى آلت بها الحال إلى ان تفتح الماخور بعد أن « نام كالصبية بين فخذيها اعتى الرجال وكانوا يبكون ويستسلمون وينهارون وترى عوراتهم الخلفية ثم ينهزمون. رجال كالريح، بل أسرع منها تعاقبوا على حياتها من دون أن تقبض من أي منهم على غير الهزيمة والخيبة والخسران » (ص 35). لقد سخرت من « تقاليد أهل المحلة إذ زرعت سكنها بينهم متحدية ً عصمة بيوتهم وسمعة محلته م» (ص 175)، لذلك كان التشفي واضحاً في عيونهم وهم يرونها تُقتاد إلى مركز الشرطة مؤملين أنفسهم أن تنال عقابا ً قاسياً، لكنها عادت عودة المنتصر. فقد « استنجدت بالمسؤولين الكبار الذين بدأوا يتوافدون عليها وتقدم لهم أندر المكافآت : جميلات يلوين الرقاب » (ص 177). انها « تزدري من يلعنها ويسيىء بها الظن بمن فيهم صاحب المكتبة الذي يراقبها ليل نهار » (ص 14) والليل في قلبها هو « عالم الحرية والسعادة وإسدال الستر على الخفايا والملذات » (ص 13). وكانت تتعامل مع الآخرين باستعلاء واضح إذ كانت ترمي النقود ـ ثمن مشترياتها ـ إلى أبي ليث وهي تقف في شرفة مملكتها وربما كانت تشعر بما يشفي غليلها من الرجال وهي تراه ينشغل بجمع الأوراق النقدية المتطايرة، فعقدتها مع الرجال كانت كبيرة وكانت تساورها رغبة عميقة في الانتقام منهم بدءاً بذلك الرجل الذي غرر بها، (وقد تكرر ما حصل لها مع ابنتها هيفاء التي اختطفها رجل لكنه تزوجها شرعا ً فيما بعد وحرّم عليها أن تذكر اسم امها). ويواصل الروائي سبر غور نفس بطلته ويكشف عن مكنون هذه النفس وخفاياها. فقد كان « من رغبتها ان يخرج ضيوفها لترى في عيونهم شهواتهم المفرغة وسعاداتهم المتلألئة وأجسادهم الباردة المتطامنة وكذلك مواثيقهم ومواعيدهم المتواترة وكأن بين أصابعهم جنة خالدة » (ص 27). وشعرت انها « في أقصى حاجتها إلى رجل .. رجل ليس عابراً ولا مخذولاً انما رجل يعرف كيف يفك الأسرار وكيف يثير المباهج ويبهر الروح وكيف يطفىء لهيب النار » (ص 25). ووجدت ضالتها في صالح، سائق السيارة القديمة الذي نقلها إلى السوق. كان تعبيرها عن حاجتها إلى مثل هذا الرجل، وقد استبد بها السكر، حصيلة رد فعلها على الميكانيكي الذي كانت تنظر إليه باشتهاء حين خرج وعشيقته الخرساء من غرفة مريم، ورفض مراقصة الملكة احتراماً لوعده لعشيقته « ترنحت الملكة واسقط بيدها، فكّرت في أن تبصق في وجهه وتقول له : أنت جبان، وأي رجل يرفضني جبان، بل كل الرجال جبناء. منذ الليلة قررت الملكة قراراً جديداً .. ان تأتي يرجل. رجل زوجاً أم عشيقاً يأكل ويشرب ويستجيب إلى دعوتها كلما أطربها صوت أو أخذت بها نشوة سكر » (ص 29). وتبدو الملكة وكأنها تعاني من صراع يتفجر في داخلها، والروائي لا يجردها من حس إنساني تجلى في حزنها على أخيها المفقود الذي كانت قد تخلت عنه في صباه، وفي تعاطفها مع الطفلة سالي التي رأتها تسقط مت شرفة الشقة النقابلة، فلم تدل سلتها ولم تقابل أحداً ذلك اليوم. ونجدها تأسى لحالة رجاء التي يقرأ لها خادمها يوسف حكايتها من الأوراق التي استلتها مريم من الروائي في غقلة منه (في مشروع رواية داخل رواية)، فنسمعها تقول « مسكينة هذه المرأة ، معذبة بزوجها أو حبيبها لا أدري » وما لبثت ان هتفت بيوسف متكدرةً « اقطع قراءتك، نفسي تضيق يا يوسف .. هات لي سيجارة وعمّر لي كأسا ً لا يشوبه ماء. لقد شب حريق في داخلي . الرجل أقسى ما يكون حين لا يعرف الحدود » (ص 93). وتقول لصالح « لقد لاذ بي قبلك جنود هاربون ومحرومون وبائسون ومقطوعون كنت احكم عليهم في سلطة قاهرة. كانوا ضعفاء، جلهم كانوا ضعفاء » (ص 81). ويلاحظ انها شديدة الحرص على مريم، تمنعها من الوقوف في الشرفة وتصادر حريتها تحت لافتة الخوف عليها مع انها تعيش معها في الماخور الذي تديره، بل انها كانت توفر غرفة مريم الخاصة لخلوات الرجال وعشيقاتهم. وتبدو مريم (ولنلاحظ دلالة الاسم) طارئة على الشقة / الماخور، وربما قصد الروائي حين زجها وسط ذلك الجو الملوث أن يضعها بنقائها معادلاً للملكة. انها في أوان تفتّح زهرة نضجها لا يعنيها ما يحدث في الشقة، مع ان ما يحدث فيها خطير، تتكتم وتلوذ بالصمت فلا ترد على أسئلة أحد وتلمس نفسها ممتحنة يسكنها توق للحرية، تحاول الهرب إلى الشرفة احتجاجاً على مصادرة حريتها في النوم ومراجعة دروسها وإشغال غرفتها من قبل زبائن الملكة. ان نفسها تتوثب لشيء خارج شقة امها : حديقة أو متنزهاً أو شارعاً يمتد مع نهر .. « كانت تتطلع فقط ولم تطلب قط، ولربما كانت تعرف بفعل ما تقادم على ذهنها وعينيها من أجواء، حدود ما يباح لها وما لا يباح » (ص 24). انها تعبّر لأبي ليث عن ضيقها بالشقة : « أكره الحياة في الشقق، إذ لا حديقة ولا فضاء. في الدور هناك متسع حتى للعصافير » (ص 104). وفي نفسها أيضاً توق للتخلص من عيني الملكة وهي ترصدها في رواحها ومجيئها. زارها حلم جميل وهي في غفوة قصيرة و « فتحت عينيها على وجه امها .. لم يكن جميلاً بالمرة .. انه وجه مدمدم ملموم لا تهاليل طيبة عليه ورسوم جميلة » (ص 18). وفي هذا ما قد يفصح عن حقيقة مشاعرها الداخلية تجاه الملكة التي قد لا تكون امها الحقيقية لاسيما ان الحيرة كانت تستبد بها كلما جاءت تلك « المرأة ذات العينين الرماديتين مناديةً عليها بذلك الاسم الغريب الذي كثيراً ما رددته على مسامعها (سرور) قبل ان تنعطف على اسمها الذي يناديها به الجميع (مريم). انها المرأة الوحيدة التي تنادي عليها بهذا الاسم بإمعان، تترسم معانيه أو تنطقه ثم تتوقف وعيناها تنصبّان في عينيها تستولدان استجابةً ما » (ص 152). ويزيد من حيرتها ان ترى الملكة تدس بيد المرأة شيئا ً من المال. وحين تهم بالمغادرة بعد زيارتها السريعة والخاطفة « انبثقت في أطوائها رفرفة كانت تجدها في الأخير عسيرة المنال، ليترسب في نفسها ذلك الأسى الذي يتولد بعد رحيل شيء قريب » (ص 152). لقد ظل هذا لغزا ً لم يمط الروائي اللثام عنه. وعلى هامش المملكة تطفو شخصية يوسف العامل الذي قدم إلى العراق من مصر سعياً وراء المال فتعرض لحادث اعتداء فقد معه ما كان قد جمع من نقود ممنياً نفسه بشراء سيارة يعمل بها، فوجد نفسه مضطرا ً للعمل خادماً في ماخور، مجسداً محنة المرء حين يغترب عن وطنه.
تكاد شخصية ابي ليث تنفرد بالحضور في العالم المقابل ــ الدكان ــ وهو يظل بلا اسم محتفظاً بكنيته حتى النهاية. ينطلق صوت مريم فيسيل لعابه على مرآها وهو ما يحدث في كل مرة. لصوت مريم سحر يستولي عليه، فهو « في حقيقته صوت خاص فيه شرخ كأنه باب على مشارف جنة غنّاء » (ص 44). لا يخفي إعجابه، إعجاب الولهان، بها وهي لم تخرج من قشرة مراهقتها بعد، أما هي فتراه رجلاً « في الخمسين أو الستين وخط الشيب مفرقيه ولكنه جميل وقريب من النفس » (ص 45) . ويبدو هو كأنه يمر بحالة نكوص إلى فترة المراهقة. فبين أحلام اليقظة وأحلام النوم تتواتر صور مريم وسوزان المراهقة التي كان قد تحرش بها في شبابه، ولعله يحاول بسلوكه إزاء مريم أن يجد معادلاً لحالة الإحباط التي يعانيها بسبب المرض الذي أصاب زوجته وأقعدها عن الحركة. فهو « سرعان ما يخبو خلف غلائل أحلامه بمريم بعيداً عن الزمن الذي قد يقطف به ثمار حبه الغريب » (ص 16). يقول « ها أنا استنزل من عباب الظلمة الدكناء والفراغ الموحش صوت مريم، صورتها، إشاراتها الطازجة البيض، دعوتها السرية الكامنة في اضمامة الوردة العذراء » (ص 51). كان يحرص على ان يدس لها هدايا في سلة مشترياتها ولطالما كان يختلس النظر إليها بشبق محموم وقد « أمسكت بنظراته تتوغل في خفايا صدرها فابتسمت له » ( ص 103 ). أليست مريم « محطته التي تزيل ركام صدره المخثر بالحرمان ؟ » (ص 140) فلا يجد مفرا ً للهروب من خيباته سوى اللواذ بجلسات السكر مع صاحبه المحامي الذي هو من ضحايا الحرب، ووجد في بيته وعائلته هو الآخر ما يدفعه للهروب.
ويشكل صالح صلة الوصل بين العالمين المتناقضين : عالم شقة الملكة وعالم دكان ابي ليث. في مصادفة هي الوحيدة التي يوظفها في روايته (وهي مصادفة غير مصطنعة) قاد الروائي صالح إلى أن يلتقي صديقه القديم أبا ليث وكانت رفقة خنادق القتال في الحرب العراقية ـ الإيرانية قد جمعتهما معاً. لقد جاء صالح إلى ذلك الحي بعد الصفقة التي عقدها مع الملكة وارتضى بموجبها ان يسكن الشقة « عشيقاً صالحاً يفي بالمتطلبات دون عقد أو مراسيم، مع الحرية في اتخاذ القرار، ولكن بشهامة وذوق » (ص 35)، على أن لا يتخلى عن سيارة الأجرة القديمة التي تآلف معها وكان يراها بيتاً له. بدا واضحاً ان صالح كان يضيق بالالتزام : أكمل تعليمه الجامعي ولكنه رفض العمل في التدريس، تزوج وطلّق لأنه لم يجد ما يجمعه بزوجته غير غرفة وسرير، شارك في الحرب مقاتلاً شجاعاً، شهماً، أنقذ حياة صديقه ابي ليث ولكنه أدار ظهره للحرب. انه « كان يكره الحرب ويكره أهوالها بالحجم الذي يشعر حيالها الآن. ومنذ أول لحظة فيها أدرك تفاهتها على الرغم من بطولات كان يقوم بها أو تنسب إليه، أمسى يتقزز منها ولا يعود إليها » (ص 84). تسلل إلى الشمال وقاتل هناك ربما ضمن فصائل الأنصار الشيوعيين، يشي بهذا الاحتمال قوله « توجب عليّ في تلك الحرب الضروس أن أقتل أو أقتَل مرة أخرى دفاعاً عن المبادىء هنا بعد ان كانت عن الوطن هناك » (ص 119)، فانسحب ذاهباً إلى بيروت حيث انغمر في ثلاثة أشياء : البحر والخمرة والنساء. لقد انسلخ صالح عن هويته وسعى لأن يمحو ماضيه من ذاكرته وحتى اسمه أبدله من شاكر إلى صالح، وفي هذا، وفي سقوطه في شرك الملكة، ما أثار استغراب أبي ليث وحزنه وأساه لهذه النهاية الوضيعة. ان الروائي أسقط صالح من علياء ماض ٍ مشرّف إلى حضيض حاضر ملوّث ولكنه أوحى بتراجع بطله وأشار إلى حالة عودة الوعي لديه. ففي جلسة سكر بصحبة أبي ليث والمحامي « هبط صالح إلى الأرض، أحس حرارة ذراتها الذائبة، تمور تحت قدميه وبعد ان ردد مع أبي ليث (في صحة الوطن) أضاف هو منفرداً (في صحة وطن عزيز يستحق الموت) » (ص 224)، وكانت الحرب الأمريكية لاحتلال العراق على الأبواب حين قال ذلك.
لقد أحدث حلول صالح في الشقة نقلة تغيير في الحياة داخلها، إذ أصبح حضوره هو الطاغي ولم تعد هناك اشارة إلى حضور العشاق وعشيقاتهم ولا إلى موائد العشاء التي كانت تقيمها الملكة. أما مريم فقد طرأ تحول كبير عليها إذ يبدو انها « قفزت في النضج الأنثوي عشر قفزات خلال شهر واحد. التف جسدها ونهد صدرها وارتفعت قامتها » (ص 101) وكان واضحاً انه أحدث هزة في جسدها وروحها معاً، وبدا انها وقعت في حبه فهي تتطلع إليه « بسكون كما لو انها تغوص في بحر سحره وهو يداعب شعرها بأنامل رخية وحنان غير مألوف، وهو يطل عليها بجسده كله تتمتم بين عينيه لغة الشعر » (ص 141)، وكانت هي « تمد إليه عنقها بأقصى طاقتها، وشعاع عينيها ينفذ إلى روحه ويغسل آلامها ويزيح عنها ركاماً من قيوح الحروب والمعارك والهزائم وعذاب الضمير » (ص 141 ). وبدا ان رغبتين متناقضتين تتنازعانه : الرغبة في امتلاكها (كان يود أن يضمها إلى صدره ويقبّل فمها الطري أو يحملها بين يديه)، والرغبة في صيرورته أباً لها كما كانت الملكة تتمنى. ومثلما أحدث حلوله في الشقة نقلة تغيير فيها فانه بدا واضحاً انه كان سبباً في انهيار المملكة. لقد كان مطلوباً وملاحقاً وثمة من يترصده لتنتهي عملية الترصد بمصرعه تحت الشقة، لتهرب مريم ويهرب يوسف بنقود الملكة التي لم تجد، وقد فقدت كل شيء، سوى ان تقذف بنفسها من الشرفة قريباً من المكان الذي سال فيه دم صالح، وقبل ذلك، وفي إيماءة ذكية، وجدنا البلبل الذي كان في الشرفة والذي خرس عن التغريد توقاً للحرية، عمد إلى الإضراب عن الطعام لكي ينحف جسده بما يطيح له فرصة الانفلات من بين قضبان القفص والتحليق في فضاء الله الواسع.
ان « مملكة البيت السعيد » واحدة من أفضل الروايات العراقية التي كتبت عن الحرب، وهي ترقى إلى مصاف أعمال كبيرة مثل « المسرات والأوجاع »، رواية فؤاد التكرلي، و « بيت على نهر دجلة »، رواية مهدي عيسى الصقر، مع احتفاظها بخصوصيتها. لقد جاءت محبوكة بخبرة بنّاء ماهر وبلغة مسبوكة بأصابع صائغ كلمات بارع، جعلها تقترب من إيقاع الشعر. !