ترجمة الدكتور سامي الجندي

مجنون إلسا، لويس أراجون، فرنسا Le Fou d’Elsa, Louis Aragon (1897-1982), France

, بقلم محمد بكري


جريدة الحياة


الجمعة، ١٢ يونيو/ حزيران ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس


«مجنون إلسا» لآراغون : رثاء غير يائس للأندلس العربية


«لا ريب في أن الأحداث التي كانت تجري في أفريقيا الشمالية - أي تحديداً، حرب الجزائر - كانت هي ما كشف لي عمق ضروب الجهل التي أعيش، وافتقاري الى الثقافة الحقيقية... لكنني لم أكن بالطبع وحيداً في هذا...». هذا ما قاله الشاعر الفرنسي الكبير لويس آراغون في حوار من سلسلة حوارات أجراها معه في عام 1964 فرانسيس كريميو، ونشرت مجموعة في كتاب. وكان السؤال الذي أجاب عليه آراغون على هذا النحو، يتعلق بكتاب صدر له في العام السابق، 1963، بعنوان «مجنون السا». والذين يعرفون هذا الكتاب - وهم كثر طبعاً - يعرفون ما الذي عناه آراغون في كلامه عن «الجهل» وعن «الافتقار الى الثقافة». فهو كان يعني جهله بالحضارة الإسلامية، وافتقاراً اوروبياً بعامة الى ثقافة تُفهم الأوروبيين ان جزءاً من عصر النهضة الغربية إنما يدين الى مسلمي الأندلس... الذين نقلوا الى اوروبا العصر الحديث، الفلسفة اليونانية ناهيك بشتى ضروب العلم والمعرفة. وما موضوع «مجنون إلسا» في نهاية الأمر سوى هذا الدَين الذي ندر ان اعترف به الأوروبيون قبل القرن العشرين.

بالنسبة الى آراغون كان هذا الاعتراف فعلاً حضارياً، لا بد منه... ولما كان هو شاعراً قبل أي شيء آخر، آثر ان يكون اعترافه شعراً، فكتب تلك القصيدة، التي سيصفها كثر - عن حق - بالملحمية... خصوصاً انها تتحدث في شكل اساس عن سقوط غرناطة وآخر ايام العرب في الأندلس ايام الملك الأخير «بوعبديل» (ابو عبدالله)، كما تتحدث في الوقت نفسه وفي شكل موازٍ، عن انطلاق كريستوف كولومبوس في سفنه التي بها «اكتشف» اميركا. والحقيقة ان هذا الموضوع الأخير كان قد حضر في قصائد وأعمال عدة كتبها آراغون قبل ذلك. اما موضوع نهاية العرب في اسبانيا فكان جديداً عليه. اما ما لم يكن جديداً ابداً، فهو النواحي الجانبية في العمل، من قصص حب وغيرة وموت المحبين وصولاً الى اليأس الذي يعيشه العاشق في لحظات الفراق.

تتألف قصيدة آراغون الملحمية هذه من كل هذه المواضيع متضافرة. ومع هذا فإن الموضوع الأساس يبقى اسبانيا المسلمة (الأندلس) وأيضاً حياة اليهود المثمرة والمريحة في الأندلس في العصور الوسطى، هؤلاء اليهود الذين يقول آراغون ان مأساتهم الكونية كلها بدأت في ذلك العصر حيث صاروا يُضطهَدون ويُطارَدون من جانب محاكم التفتيش اسوة بالمسلمين... بسبب تعايشهم مع المسلمين. وفي شكل عام يمكن القول ان هذا النص الطويل إنما كانت اهميته انه راح ينظر الى ما حدث كله، من وجهة نظر المهزومين، لا من وجهة نظر المنتصرين. والمهزومون هم هنا، أول الأمر، كائنات بشرية، لكنهم ايضاً كانوا ممثلين لحضارة مزدهرة كانت هي ما أشع بنوره على اوروبا كلها... بما في ذلك تصوّر جديد للحب، لم يكن لأوروبا المتزمتة معرفة به من قبل. وبالنسبة الى آراغون كان هذا النوع من الحب، فعلاً حضارياً بامتياز. ولعل كل تلك الحضارة ما كان يمكنها ان تقوم لولا احتفالها بالحب على الطريقة العربية، التي كانت ايضاً طريقة آراغون نفسه في الحب.

اذاً، في «مجنون إلسا» انطلق آراغون من الحب ليصل الى الفعل الحضاري. وهو للوصول الى هذا استثمر كل ثرائه اللغوي. كتب مقاطع شعرية ومقاطع نثرية... وكتب سطوراً لا هي بالشعر ولا هي بالنثر. جعل بعض المشاهد حوارية. وأدخل المناجاة العاصفة طرفاً في لعبته اللغوية. كما جعل اللغة تعلّق احياناً على الأحداث في نوع من اسلوب الرد التاريخي الخالص. والطريف ايضاً انه في مقابل الشاعر الذي كان يعود في بعض الأحيان الى الماضي التاريخي الحقيقي ليعلّق عليه، كان هناك ايضاً البطل الذي لا يفوته ان يتحدث عن المستقبل. باختصار فتح آراغون الحدود الفاصلة بين الأساليب تاركاً للغة ان تشتغل على مزاجها. فكانت النتيجة هذا النص النادر والغريب. والنص في حد ذاته يحدثنا عن «بوعبديل» ملك غرناطة الذي يراقب التفكك والسقوط وهو محاط بأعوانه الذين يعرف ان معظمهم يستعد الآن للغدر به. اما الملك نفسه فإنه يتردد من دون الاستعانة بالشعب الذي يبدو منقسماً شيعاً شيعاً، مفتقراً الى قيادة مخلصة واعية. اما شغل الناس الشاغل على رغم ذلك كله فكان شاعراً يجول في شوارع غرناطة اسمه قيس ويلقب بالمجنون. وقيس هذا لا يكف ليلاً ونهاراً عن التغني بحب امرأة لم يكن لها بعد أي وجود حقيقي، لكنها حين توجد سوف تحمل اسم «إلسا» (وهو في الواقع اسم امرأة آراغون وحبيبته). والشاعر الذي يكرس وقته لحب تلك المرأة... التي لا وجود لها بعد، يطارد ويعتقل من قبل السلطات بتهمة الزندقة... لكنه حتى في سجنه لا يتوقف عن الغناء الذي ينضم إليه فيه زنادقة آخرون. في النهاية يطلق سراح الشاعر بعد ان يُجلد مرات عدة، لكنه ما ان يستعيد حريته حتى يجد ان ملوك اسبانيا الكاثوليك قد غزوا غرناطة فلا يكون امامه إلا ان يهرب الى الجبال، حيث يستقبله الغجر ويهتمون به. وهو في رقدته تلك وقد أضحى عجوزاً، اذ يفقد كل امل في استعادة عروبة غرناطة، يبدأ بقراءة وغناء الأزمان المقبلة: زمن دون جوان الذي سيحول الحب الى هذيان، وزمن ناتالي دي نوايي ولقائها مع شاتوبريان، والزمن الذي يشهد قتل غارسيا لوركا... وصولاً - كما يمكن لنا ان نتوقع - الى زمن إلسا. إلسا التي يحاول شاعرنا استعادتها الى الحياة - الى حياته - من طريق السحر فلا يفلح. وفي النهاية يموت قيس يائساً لدى الغجر بعد ان يقبض قادة محاكم التفتيش على صديقه الوفي زيد ويعذبوه ويقتلوه... وكان هؤلاء المفتشون دخلوا غرناطة، في الوقت الذي بدأت سفن كولومبوس تتحرك فيه تجاه اميركا... وهذا التحرك هو بالنسبة الى آراغون علامة على المستقبل المقبل، لأن كل رعب حاضر، إنما يخلق من اعماقه امل المستقبل الجديد. وآراغون قال هذا بنفسه حين أشار في القصيدة الى ان «الذين يلومونني على توجهي بناظري نحو الماضي، عليهم ان يفهموا اننا لسنا بقادرين على فهم ما يحدث الآن إلا حين نفهم ما حدث في الماضي»، مضيفاً: «ان إلقاء نظرة على ما حدث، هو الشرط الأساس للوصول الى أي تفاؤل ممكن».

غير ان السياسة وتاريخها ليسا هنا كل ما يشغل بال آراغون او قصيدته. فهناك ايضاً - ناهيك بالخط الأساس الذي هو فعل التفاؤل على رغم كل شيء - هناك المرأة. المرأة التي هي بالنسبة الى آراغون «مستقبل الرجل». هذه المرأة، غائبة حاضرة، محبوبة مغنّاة، هي التي تشغل الجانب الأهم من هذه القصيدة السيمفونية التي اذ كتبها آراغون ليقول ما اراد ان يقول حول حرب الجزائر وعظمة ماضي تلك الحضارة التي «لا يكف الفرنسيون عن قهرها اليوم»، كتبها ايضاً ليأخذ على بني قومه الفرنسيين تشتتهم وعمى ابصارهم الذي ادى الى هزيمتهم في مواجهة الألمان في عام 1940، كل هذا وغيره، ملأ به لويس آراغون هذه القصيدة، التي قرئت وترجمت على نطاق واسع كما ان جزءاً منها مُسرح بين الحين والآخر (وقُدّم في بعلبك في لبنان اوائل سنوات السبعين في حضور آراغون نفسه).

في شكل عام، يمكن ان نقول ان «مجنون إلسا» التي يعتبرها كثر من النقاد والقراء، من أجمل أعمال آراغون بل من أجمل نتاجات الشعر الفرنسي في النصف الثاني من القرن العشرين، اتت عملاً شاملاً، يختصر الجزء الأكبر من النتاج الفني والفكري للويس آراغون (المولود اوائل القرن والراحل عند بداية ثمانينات القرن العشرين)، الشاعر والروائي والناقد والمناضل السياسي، الذي ملأ القرن العشرين الفرنسي صخباً وسجالات ولا سيما خلال الفترة الستالينية التي كان فيها واحداً من كبار مادحي ستالين... وهو أمر من المؤسف انه لم يعتذر عنه حتى رحيله على رغم كل ما أعلن وتأكد من مفاسد الحقبة الستالينية ومجازرها.

عن موقع جريدة الحياة


“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.

منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.

اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.

تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.

باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.


عرّف بهذه الصفحة

  • netvibes
Imprimer cette page (impression du contenu de la page)