السبت، ١٤ فبراير/ شباط ٢٠١٥
جريدة الحياة
محمد حسين أبو العلا، كاتب مصري
أوروبا وذكرى مرور عشرة قرون على كتاب «المناظر» لابن الهيثم
لعل الحركة العلمية المعاصرة، مهما امتدت أشواطها وتوالت إنجازاتها الرفيعة، تظل مدينة بتلك الإرهاصات أو الإشعاعات الفكرية والعلمية للتراث العربي، ذلك التراث الذي ظل مصدر خصوبة وبؤرة تنوير لآماد غير قصيرة في عمر الحضارة الإنسانية. وليس لهذا التراث فضيلة الإثراء المعرفي والتراكم العلمي فحسب، وإنما تعود فضيلته الكبرى إلى تغيير طبيعة الوعي العام الذي اجتاز آفاقاً جديدة استناداً إلى تلك الجذور الأصيلة التي أرساها في بؤرة هذا الوعي، فخلق فيه نوعاً من الغيرة جعلته يحيد عن ماضيه مستلهماً ضرورة فكرة التقدم والارتقاء تحقيقاً لوضعية كونية أرادها لذاته نبذاً لعصور الانكفاء والتراجع التي مارسها طويلاً.
وها هو الآن يجدد وعيه باستحضار تلك الإرهاصات البراقة احتفاءً وإشادة بالعالم العربي البارز ابن الهيثم في ذكرى مرور عشرة قرون على ظهور كتابه «المناظر»، ذلك الكتاب الذي كرس للعديد من الأصول المنهجية وأطاح الكثير من النظريات العتيقة ممثلاً بذلك سلطة علمية يستشهد بها ويرجع إليها باعتبارها كنزاً إنسانياً يعلو على المتغيرات ويستمسك بالثوابت الأبدية. وتنبري منظمة اليونسكو الآن لتنظيم مؤتمر بعنوان «ألف اختراع واختراع» تقدم خلاله أبحاثاً ودراسات عن العصر الذهبي للعلوم في الإسلام كمجتمع قائم على المعرفة «ابن الهيثم نموذجاً»، وكذلك مساهمات ابن الهيثم في العصر الذهبي في الإسلام. وهو ما يردنا بالضرورة إلى مراجعة أحدث الإصدارات عن ابن الهيثم ومآثره العلمية للدكتور أحمد فؤاد باشا، تلك التي خطها في حرفية أكاديمية ورصانة مطلقة ووعي بقيمة التراث العربي ممثلاً في رمز من رموزه مع استقصاء بديع في طرح إشكالية التعامل مع التراث قومياً وعالمياً في إطار ما يتجلى من ملامح الاهتمام الدولي بالتراث العلمي. ولعل كتاب «المناظر» يعد عملاً موسوعياً وملحمة علمية نقلت عن العربية إلى اللاتينية وظلت مرجعاً للأوروبيين في علم الضوء خلال القرون الوسطى وإبان عصر النهضة الأوروبية.
وتكمن إبداعية المنهج العلمي لابن الهيثم وغيره من صفوة العلماء الذين تشربوا تجليات الحضارة الإسلامية في مبدأ الاندماج بين العلم والحكمة أو الحقيقة، فلا فصل بين تحليل العلاقات التي تصل الأشياء بعضها ببعض والتي تبرز القوانين التي تنطوي تحتها قواعد هذه الأشياء وبين ربط هذه العلاقات الجزئية مع ذلك الكل الذي يكسبها معنى ودلالة، وهنا يكون العلم من وجهة النظر الإسلامية دنيوياً بعلاقته مع الأشياء ويكون في الآن ذاته مقدساً لصلته بالخالق، ورسوخ هذا المعنى في فكر الباحث ووجدانه هو جوهر الشخصية العلمية لعلماء الحضارة الإسلامية، وهو ما يعد بالنسبة إليهم تحصيلاً منيعاً ضد صراعات المذاهب الفلسفية على اختلاف توجهاتها ومناحيها.
ولا ينازع أي من العلماء ابن الهيثم في نسبة علم البصريات بأكمله إليه، فهو أحد العلوم الفيزيقية المعنية بدراسة الضوء وخواصه وظواهره وتطبيقاته، وتنبثق أهميته من كونٍ ذي انعكاسات مباشرة على تقدم أفرع أخرى مثل علوم الفلك والفضاء والكيمياء والطب والصيدلة والجيولوجيا والنبات والحيوان. ولقد حظيت المنهجية الصارمة بقسط وافر في فكر ابن الهيثم، إذ اعتمد على مبدأ الشك العلمي لدى الذات الباحثة سواء قبل الشروع في إجراء التجارب حول ظاهرة ما أم حتى بعد الوصول إلى نتائج، وهو بذلك يضع مبدأ الشك في إطار منهج نقدي تجريبي قادر على بلوغ الحقيقة العلمية الجزئية بأعلى درجة ممكنة من اليقين، وهو ما تمايز به ابن الهيثم عن فيلسوف العلم كارل بوبر؛ صاحب مبدأ قابلية التكذيب ومنطق الكشف العلمي.
وفي الإطار نفسه يطرح الكتاب فكرة أن عبارات ابن الهيثم كافة إنما تعكس في كلياتها خصائص العلم التجريبي ومقومات نجاح البحث العلمي الذي افتقدها كل من المنطق الأرسطي والمنهج البيكوني، إذ إنه كثيراً ما كان يلجأ أرسطو إلى القياس النظري المجرد كلما حاول تفسير الظواهر الطبيعية وهو ما أدى بالفعل للوصول إلى نتائج صادقة قياساً إلى المقدمات لا قياساً إلى معطيات الواقع وهو ما قطع الصلة بالابتكار والتقدم المعرفي، لذا كان حرصه على الاحتكام إلى التجربة وذلك بإعادة إجراء التجارب على عدد من القواعد التي توصل إليها الأقدمون إنطلاقاً من عجز المنطق الصوري المتبع في الوصول إلى هذه القواعد. وبصفة عامة فالقواعد التي وضعها فيلسوف العلم الإسلامي ابن الهيثم لمنهج الاستقراء في العلوم الطبيعية التجريبية، تمتاز بأنها ليست مجموعة محددة من الخطوات التي تلتزم ترتيباً معيناً ليس لها أن تتجاوزه أو تعدله مما يضفي عليها قدراً كافياً من المرونة يحول دون جمودها أمام حركة العلم أو تطوره.
ولقد أوجز الغرب معرفته العميقة بابن الهيثم في أنه مثَّل فلسفة معرفية جديدة ذات تاريخ تقدمي لتقنية قديمة، إذ بدأ من ملاحظة لظاهرة بصرية في الغرفة المظلمة ثم ارتقى إلى نموذج الآلة المعرفية الكاملة.
ولعل كل ذلك يحرك لدينا تساؤلات شتى على غرار: لماذا لم ينتبه العالم العربي والإسلامي إلى ذكرى مرور ألف عام على صدور كتاب عربي علَّم العالم وكان مصدراً حيوياً للإشعاعات العلمية المعاصرة؟ وما هي طبيعة المشاركة الفاعلة على الصعيد العربي تجاه احتفال أسطوري تقيمه منظمة عالمية لعالم عربي له من الأصالة العلمية والرصانة الفكرية ما يجعله معاصراً فذاً؟ ومنذ متى كان العالم العربي والإسلامي مشاركاً في تلك التظاهرات العلمية أو المناظرات الثقافية أو العقائدية؟ وإلى متى تظل المخطوطات العربية متناثرة في مكتبات العالم كآيا صوفيا، الفاتيكان، طهران، باريس، برلين، بنكيبور في الهند، فضلاً عن مكتبة المتحف البريطاني ومراكز الأبحاث على تعدد توجهاتها؟ ألا تتفتق الذهنية العربية الإسلامية يوماً ما عن إدراك أهمية اكتشاف مكنونات تلك المخطوطات بالشكل الذي يمكن أن يقدم إضافات علمية لم يفطن الغرب إليها حتى الآن؟ وكم مرة احتفى عالمنا العربي والإسلامي بأثر تراثي جديد أو بقامة ثقافية أو فكرية أو دينية كابن سينا، ابن خلدون، ابن عربي، الكندي، ابن طفيل، المعري وغيرهم؟ وكيف نحقق الولاء والانتماء للتراث العربي؟ وأي آلية يمكن أن نوظفها لإزالة تلك الجفوة؟
إن درامية التعامل مع التراث لن تنتهي إلا بانتزاع تلك الوصمة الثقافية المتمثلة في ازدواجية الاعتزاز به وإجلاله مع الجهل بقيمته.
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.