السبت، ١٧ أكتوبر/ تشرين الأول ٢٠١٥
جريدة الحياة
خالد عزب
إعادة اكتشاف المجهول من شِعر أبو تمام
صدرت عن «مؤسسة البابطين» للشعر العربي في الكويت، طبعة كاملة لديوان أبو تمام، في ثمانية مجلدات، جُمعت من 76 مخطوطة، وتضمنت أربعمئة قصيدة لم تنشر من قبل. حقق هذه الطبعة محمد مصطفى أبو شوارب، الأستاذ في جامعة الإسكندرية، وهو يرى أن قارئ شعر أبي تمام يمكن أن يلحظ ظهور ملامح شخصيته الإنسانية بوضوح في قصائده ومقطوعاته، فيبدو ذا نفس طموحة متعجلة، متأرجحة بين الاندفاع حيناً والتعمق حيناً آخر، شغوفاً بالحياة ولذاتها، والنساء منها في الصدارة، كريماً متلافاً أفاد مالاً وافراً من ممدوحيه فأفناه في إمتاع نفسه ورفد أصدقائه ومحبيه، جريئاً مقداماً أحب المعارك والحروب وتعلق بها وأجاد تصوير حوادثها وتعمق مشاعر من يخوضونها، ذو نزوع واضح إلى استخلاص تجارب الحياة وتكثيفها والخروج بها من حيز الخاص الفردي إلى دائرة العام الإنساني، يدمن النظر في الأشياء ويتعمق جواهرها، ويعمد إلى التقاط متناقضاتها، مجيداً العزف على أوتارها المتعارضة في سبيل كشف هذه الجواهر الفريدة، وله ميل بارز إلى العصبية العربية. وهو في كل هذا صادق في شعوره، راغب في أن يكون مختلفاً في تصوره وتصويره، تعينه على ذلك شاعرية فذة، وعقلية متوهجة، وثقافة فيها من الوافد الأجنبي، بقدر ما فيها من الموروث العربي. وهيأ ذلك كله لأبي تمام أن يقود واحدة من حركات التجديد الكبرى في تاريخ الشعر العربي على مر العصور، وأن يساهم بالقدر الوافر في تأسيس شعرية جديدة كان لها حضور قوي في إبداعات الشعراء العرب على مدى عشرة قرون متصلة، وكان لها النصيب الأوفر من جهد النقاد والدارسين، ربما إلى اليوم، فأثار اندفاع شعر أبي تمام الجارف إلى التجديد تصوراً وتشكيلاً - حركة نقدية واسعة اجتذبت من الأنصار في حياة الرجل وبعد وفاته بقدر ما اجتذبت من الخصوم. فلم يقتصر أمر الخصومة حول شعر أبي تمام على جملة الملاحظات التي تحملها روايات النقاد ورواة الشعر في كتب التراث الأدبي والنقدي شأنه شأن كثير من الشعراء القدامى المرموقين، وإن كان أبو تمام يشارك أبا الطيب المتنبي في صدارة الشعراء الذين عني النقاد والبلاغيون في مؤلفاتهم العامة بدرس شعرهم وتحليله.
ولم يقتصر أمر هذه الخصومة كذلك على الانفراد بتخصيص مؤلف أو مؤلفين عن شعره، كما هي الحال مع بعض الشعراء البارزين في أدبنا العربي القديم، بل قامت حول شعر أبي تمام وتجربته الفنية حركة تأليف نقدي وإخباري واسعة المدى منذ القرن الثالث الهجري. ولا يكاد كتاب من كتب الأدب والنقد والبلاغة منذ القرن الثالث الهجري يخلو من آثر من آثار تلك الخصومة التي اشتجرت حول شعر أبي تمام، ولم تخمد شعلتها على رغم انشغال الحركة النقدية بشعر أبي الطيب المتنبي (301 - 353 هـ) الذي يعده كثير من القدماء والمحدثين امتداداً لأبي تمام.
والخصومة حول شعر أبي تمام في جلّ تلك المؤلفات صادرة لا ريب عن موقف فني يتعلق في أصله بقضية الخصومة بين القدماء والمحدثين. فالصراع حول شعر أبي تمام في حقيقته هو صراع بين أنصار التجديد والخروج على النظام الشعري الموروث من جهة، وأنصار الحفاظ على مواضع هذا النظام وتقاليده من جهة أخرى، إذ مثلت تجربة أبي تمام الفنية خروجاً سافراً على الموروث الشعري، وتهديداً عنيفاً للشعرية العربية الموروثة بكل طاقاتها الجمالية وطرائقها اللغوية، على نحو لم يقدم عليه شاعر من قبل، بمن فيهم الشعراء الذين انضووا تحت لواء التجديد ورفعوا رايته، ومن ثم فقد واجه شعر أبي تمام موجات متعاقبة من الانتقادات الحادة التي وجهها إليه النقاد المحافظون على سمات البنية الشعرية العربية الموروثة بصورة قاسية لم يتعرض لها غيره من الشعراء المجدّدين من أمثال بشار ومسلم وأبي نواس الذي جاهر بالخروج على تقاليد القصيدة العربية ورفضها في كثير من السخرية والتهكم، ومع ذلك لم يصبه مثل هذا الهجوم النقدي الشرس الذي أصاب أبا تمام على رغم من أنه لم يتخذ موقفاً معادياً من هذه التقاليد مثلما فعل أبو نواس.
ولم يكن موقف النقد القديم في ذلك موقفاً عبثياً، فالنقاد أدركوا بوعيهم الفني أن أبا نواس وإن هاجم الأطلال وهزأ بها واستبدل بها الخمر في مقدمات قصائده، فهو لم يزد على استبدال إطار حديث بإطار قديم من دون أن ينال شيئاً ذا بال من جوهر لغة الشعر وتراكيبه وصوره. أما أبو تمام، فهو وإن التزم هذا الإطار الخارجي الموروث أحياناً، فإنه سعى إلى تحويل بنية اللغة الشعرية ذاتها وتغيير مسارها نتيجة نزوعه الكثيف إلى الانحراف والتجاوز وكسر المواضعات المألوفة، وسبك تراكيب جديدة تدخل المفردات اللغوية من خلالها في علاقات تتسم بانفتاح أفق الدلالة على مستويات مختلفة.
وعدَّ كثير من النقاد ومعظمهم من أصحاب المرجعيات اللغوية، أن اتجاه أبي تمام الفني قاصمة أصابت معاييرهم في رصد الظاهرة الشعرية وتقويمها بعامة، واللغة الشعرية منها خصوصاً، ولم يكن ذلك بالأمر اليسير، خصوصاً ان تلك المعايير شكلتها جهود متراكمة في دراسة التجارب الشعرية المؤسسة قبل الإسلام والنماذج التي سارت على نهجها بعد ذلك.
وأكثر الظن أن هواجس هؤلاء النقاد تعدّت حدود الخوف على الشعر ولغته إلى الخوف على اللغة ذاتها، بل على عقيدتهم الدينية كذلك، فتعاظمت مخاوفهم من انزياحات شعر أبي تمام وخروقاته التي ربما تجرّ اللغة على مستوى التراكيب والدلالات إلى بقاع جديدة تفقد معها الصياغات اللغوية دلالاتها، وتتحول التراكيب الموروثة إلى بنى لغوية مهجورة، وتحل محلّها صياغات جديدة بفعل المجازات والانحرافات التي تبنّاها شعر أبي تمام ومن ساروا على نهجه.
وربما تسرّب إلى نفوسهم الإحساس بالخوف على لغة القرآن نفسه، إذ من الممكن أن تتحول في ضوء هذا التصور، وتحت وطأة تأثير النزوع الكثيف نحو الانزياح إلى لغة مسجدية بعيدة من حياة الناس ومن استعمالاتهم في كلامهم، ولمَ لا؟ أليست هذه سُنة اللغات جميعاً إذا تغيّرت التراكيب وترسّخت المجازات وثبتت دلالاتها تحوّلت بفعل الزمن وكثرة الاستعمال إلى معانٍ حقيقية ينسى الناس أصولها اللغوية، وينقلب المجاز حقيقة لا تلبث أن يعدل عنها بفعل شيوع انزياحات جديدة تستهدف معيارية اللغة وتنتهك انتظامها.
صدر شعر أبي تمام إذاً عن تصور مغاير للغة، قام عليه مشروعه الشعري التجديدي الذي أكسبه عداوة اللغويين ونقّاد الأدب المحافظين الذين أشربت نفوسهم طاقات المشروع الشعري الموروث وتشكّلت أذواقهم من جمالياته.
ويرى محمد أبو شوارب أن هذا المشروع التجديدي هو المدرسة الفنية التي عرفت في العصر العباسي باسم «مذهب البديع»، وليس يخفى أن مصطلح البديع لا يعني ما يفهمه الناس اليوم من دراسة سبل تحسين الكلام لفظياً ومعنوياً، وإنما انصرف في ذلك العصر إلى توصيف مذهب شعري جديد بإزاء الشعرية المحافظة التي اصطلح على تسميتها «مذهب الأوائل» الذي تجسدّت ملامحه الفنية في جملة الخصائص الشعرية التي ينتظمها مفهوم «عمود الشعر».
واتخذت الشعرية الجديدة، أو اتخذ النقاد لها مصطلحاً دالاً على توجّهها وهو مصطلح «البديع» وهو في أصل دلالته اللغوية يعني: «المخترع على غير مثال» وكأن هذه المدرسة الجديدة تنكر بنوّتها للتقاليد الموروثة، أو كأن النقاد ينكرون أبوّة الشعر القديم لها. وربما نستطيع في ضوء هذا التصوّر أن نفهم قول ابن الأعرابي (150 - 231 هـ) العالم اللغوي المعروف حينما أنشد شعراً لأبي تمام: «إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل».
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.