الجمعة، ١٧ أبريل/ نيسان ٢٠١٥
جريدة الحياة
ابراهيم العريس
أربعون سنة من الحرب أربعون سنة على الشاشة : هل استوعبنا الدرس ؟
حين عرضت اللبنانية نادين لبكي في إحدى دورات مهرجان «كان» السينمائي الفرنسي قبل سنوات، فيلمها الروائي الطويل الأول «كاراميل» نظر كثر إلى الفيلم كأنه يختم على نهاية الحرب اللبنانية منتقلاً مرة واحدة إلى ما – بعد – الحرب من خلال حكاية صبايا وضعن تلك الحرب وراءهن وبدأن يجابهن الحياة كما هي. كانت تلك النظرة إلى لبنان الجديد يومذاك واحدة من عوامل نجاح الفيلم. ولكن، بعد ذلك بسنوات قليلة عادت لبكي نفسها إلى الحرب في فيلمها التالي «هلق لوين؟» مستنبطة في مسار الفيلم حلولاً – لا تخلو من سذاجة – بدت أشبه بتعويذة ضد الحرب التي بدت من خلال الفيلم متواصلة على عكس ما كان «كاراميل» قد اقترح.
الشيء نفسه يمكن قوله عن فيلمين متتاليين للبناني الآخر فيليب عرقتنجي هما «بوسطة» الذي بدا تعويذة ضد حرب انتهت، و «تحت القصف» الذي أتى لاحقاً عليه ليستعيد خطاب الحرب. كذلك، يمكن قوله عن فيلمين للثنائي جوانا حاجي توما وخليل جريج هما «البيت الزهر» الذي يعالج «هموم ما بعد الحرب»، ولاحقه «بدي شوف» الذي عاد يغوص في الحرب من جديد...
الحقيقة أن ما نود قوله هنا هو أن حرباً ما كانت تتواصل في لبنان ولو في غفلة لفترة عن السينمائيين اللبنانيين، متخذة أشكالاً وتنوعات، على الأقل منذ ما لا يقل عن أربعين سنة. بل يمكننا، في شكل أو في آخر، أن نتحدث عن أربعين عاماً بكل ثقة بالنظر إلى أن ثمة ذكرى تعبر في هذه الأيام «يحتفل بها اللبنانيون» تتعلق بالرصاصات والمتفجرات القاتلة التي ألقيت في عين الرمانة في ضاحية بيروت يوم 13 نيسان (أبريل) 1975 مسجلة بداية دخول لبنان الجدّي إلى جحيمه الذي يبدو متواصلاً على رغم هدنات ووقفات و «ضروب خداع» كانت هي ما أتاح فرصة للسينمائيين اللبنانيين الذين تحدثنا عنهم كي يحققوا أفلاماً تعطي الوهم بأن الحرب انتهت قبل زوال هذا الوهم.
الفن الأكثر إحساساً بالحرب
مهما يكن من أمر، وبغض النظر عن أي سجال سياسي أو تاريخي حول مثل هذه المسائل، فلا بد من العودة إلى الإشارة هنا إلى أن السينما كانت الفن الذي رافق تلك الحرب اللبنانية، في كل تجلياتها وحلقاتها و «طلعاتها» و «نزلاتها» طوال الأربعين عاماً «المحتفى» بها، بأكثر مما فعل أي فن آخر في تاريخ لبنان الراهن. بل في معنى من المعاني، يمكن القول أن السينما اللبنانية الحقيقية إنما كانت ولادتها الكبرى من رحم هذه الحرب، في تمييز لها عن تلك السينما الأخرى التي كانت تُصنع في لبنان من دون أن تكون لها علاقة حقيقية بلبنان ومجتمعاته، لتكون مرة على قياس لبنان مصغّراً على قياس طائفة أو بقعة، ومرات على قياسات أكثر اتساعاً كأن تكون مصرية أو تركية أو إيطالية أو سورية أو حتى فلسطينية... فهذه كانت تعبّر عن نفسها في لبنان من خلال عشرات الأفلام التي حتى وإن كانت تقطعها بين الحين والآخر أفلام لبنانية ما، كان لافتاً أن مخرجيها قد يكونون مصريين (ولو من أصول لبنانية - شامية كيوسف شاهين أو بركات أو يوسف معلوف) أو عراقيين (كاميران حسني أو حكمت لبيب) أو غير ذلك. أما السينما اللبنانية بالمعنى العلمي والاجتماعي للكلمة فكان عليها أن تنتظر اندلاع الحرب عام 1975 لتوجد حقاً كمتن متواصل وليس كعمل من هنا أو آخر من هناك. مع هذا، فإن توخينا الدقة فلا بد من أن نقول أن الأمر كان «تقريباً» على ذلك النحو.
هذه الـ «تقريباً» تتعلق في الحقيقة بمبدعين كانا من أوائل مؤسسي هذه السينما اللبنانية التي نتحدث عنها هنا: برهان علوية ومارون بغدادي. فهذان - وإن كانا مع نصف دزينة من رفاق لهما، المؤسسين الحقيقيين لسينما الحرب اللبنانية والاسمين البارزين في تحقيق تلك الشرائط التي واكبت الحرب خالقة جيلين أو ثلاثة من مبدعين سينمائيين مميزين - كانت بداية كل منهما خلال الأعوام القليلة التي استبقت الحرب، وليس مع بداية الحرب نفسها. غير أن هذا الواقع التاريخي لا يتعين أن يمنعنا من رؤية الحرب وبدايتها ماثلتين بكل معانيهما، بخاصة في فيلمي علوية وبغدادي الأولين الذين حُقّقا وعُرضا قبل الحرب. بل إن فيلم مارون بغدادي «بيروت يا بيروت» عُرض للمرة الأولى عرضاً خاصاً في صالة كانت تدعى «سينما بيروت» وتقع في منطقة البربير غير بعيد مما سيعتبر لاحقاً خط التماس القتالي بين شطري بيروت، يوم العاشر من نيسان 1975 أي قبل اندلاع الحرب بثلاثة أيام. بهذا المعنى، لم يكن الفيلم وليد الحرب، لكنه كان بموضوعه ونهايته وصراحته الطائفية والسياسية وخوفه على لبنان، أكثر من عمل يهجس بأن حرباً قاتلة متنوعة الأسباب والأشكال ستندلع قريباً جداً في بيروت ولبنان بالتالي. وربما لم يكونوا مغالين أولئك الذين اعتبروه تنبؤاً بها من دون أن نوافقهم كثيراً على ذلك!
أما فيلم برهان علوية المتزامن إلى حد ما مع «بيروت يا بيروت» فإنه حتى وإن كان يقف بموضوعه وإنتاجه خارج قضية لبنان بالنظر إلى أنه فيلم سوري الإنتاج عن حكاية جريمة ارتكبتها إسرائيل بحق الفلسطينيين في «كفر قاسم» – وهو حمل اسم هذه القرية الشهيدة على أية حال - كان أيضاً مقدمة لولادة السينما اللبنانية الجديدة، بل حتى سينما الحرب اللبنانية، بالنظر إلى أنه سجّل انخراط مخرج لبناني من النوع المناضل والمسيّس، في القضايا العربية كاستجابة لقدر سيلف كثراً من المبدعين اللبنانيين خلال الحرب كما لفّ مواطنين لهم قبلها. فالقضية الفلسطينية التي كانت أغرت، سينمائياً، مخرجين لبنانيين مثل غاري كارابديان وكريستيان غازي، قبل الحرب، ستجد في مبدع من طينة اللبناني جان شمعون فاعلاً نشيطاً في سينماها، تماماً كما فعلت اللبنانية هايني سرور بالنسبة إلى ثورة ظفار، أو جوسلين صعب بالنسبة إلى الصحراء الغربية، وكما ستفعل الراحلة رندة الشهال حين صورت فيلماً عن الخليج ونسائه وآخر عن مصر، أو زميلتها جوسلين صعب حين صورت فيلماً مصرياً، بل وصلت حتى إلى فيتنام في فيلم لها. فمن خلال هؤلاء وعلى رأسهم برهان علوية، عرف أبناء جيل الحرب خصوصاً في السينما اللبنانية كيف يعبرون عن التحام المثقف اللبناني بالهموم الفلسطينية والعربية... وكان هذا جزءاً أساسياً من تاريخ السينما اللبنانية بالتأكيد.
حكاية جيل وأكثر
من هنا، حين اندلعت الحرب في ذلك الأحد الدموي الذي احتفل به اللبنانيون قبل أيام مرددين المثل الشعبي «تنذكر ما تنعاد»، كان هناك عدد لا بأس به من سينمائيين لبنانيين جدد آتوا في معظمهم من معاهد التعليم السينمائي الفرنسي أو البلجيكي أو غير ذلك، ولكن أيضاً من النضالات السياسية اليسارية في زحام «أيار (مايو) 68» الفرنسي وحركات الشبيبة العالمية، والثقافة التقدمية الملتزمة، من دون أن يكون لهم أي ارتباط بما كان يمكن تسميته في ذلك الحين، مع كثير من التجاوز، «تراث السينما في لبنان»، بل إن بعضهم كان يرفض ذلك التراث كلياً... كان هناك طبعاً برهان علوية ومارون بغدادي، وجان شمعون ورندة الشهال وهايني سرور، ثم بعد حين جوسلين صعب. وكان هناك جان كلود قدسي وبهيج حجيج اللذان حتى وإن كانا وصلا لبنان في ركاب علوية وشمعون وبغدادي، فإنهما لم ينضما إلى القافلة السينمائية إلا بعد سنوات طويلة، ولكن هنا أيضاً في أفلام تنتمي إلى الحرب التي كانت تنتمي إليها سينما رفاقهم السباقين. أما على المقلب الآخر، سياسياً وأيديولوجياً، فكان هناك جورج شمشوم وأندريه جدعون بين آخرين...
كل واحد من هؤلاء كان يحمل مشروعه الخاص المتعلق بتحقيق أفلام روائية طويلة على شكل سيناريوات مكتوبة، غير أن «المفاجأة» التي شكلها اندلاع القتال وانفلات الأوضاع، وتقطّع الطرقات، مع الحاجة التي استشعرها المعنيون بالحرب إلى إيجاد شرائط سينمائية - تلفزيونية تواكب التعبئة السياسية، كان لا بد لها من أن تكون صاحبة الكلمة الفصل، فاندفع السينمائيون، مؤجلين مشاريعهم الخاصة التي كان جلها عبارة عن أفلام روائية، في تحقيق أفلام قصيرة أو متوسطة تقول الحرب ومآسيها وبطولاتها وتشرعنها حيناً لتندد بها في أحيان أخرى، بحيث إن هذا كله سرعان ما خلق متناً سينمائياً قد يبدو لنا اليوم متكاملاً، وأعطى السينمائيين الشبان – وقتذاك – فرص تمرّن على تنويع اللغة السينمائية والتعامل مع الواقع والالتحام بأنواع أخرى من الفنون والآداب، من شعراء وموسيقيين وقصاصين ومسرحيين ومصورين وما إلى ذلك. ولئن كان بعض هؤلاء قد أتى يومذاك من العالم التقليدي للإنتاج السينمائي والتلفزيوني اللبناني، فإنهم سرعان ما انخرطوا في اللعبة الجديدة انخراط الأحزاب اليسارية فيها دعماً وتمويلاً وعرضاً، وانخراط عدد من المبدعين السينمائيين الجدد في سينمات أخرى كالسينما الفلسطينية. والحقيقة أن هذا كله كان هو ما صنع الاختلاف البيّن للسينما الجديدة التي راحت تُصنع في لبنان. بخاصة للسينما الروائية التي سيكون برهان علوية ومارون بغدادي من جديد أول المبدعين في مجالها، في استلهام مباشر لتجاربهما مع الحرب أو مع الغربة أو مع الطائفية أو مع القطيعة المجتمعية، وكل وفق موقعه واجتهاده، ولكن هذه المرة من منطلقات ذاتية لا علاقة لها بالخلفيات السياسية أو حتى الأيديولوجية التي كانت تقف في الأصل في خلفية الأعمال الأولى. ففي فيلمين أولين هما «بيروت اللقاء» لبرهان علوية و «حروب صغيرة» لمارون بغدادي والاثنان يعودان إلى عام 1983، أو عُرضا فيه على الأقل، سنجدنا مباشرة أمام فكرانية لم تعد قابلة بأي تبرير للحرب أو شرح لها، منذ ذلك الوقت المبكر. ولعل في إمكاننا هنا أن نقول أن هذا يتناقض مع الكثير من التأكيدات المتكررة التي تحاول أن تقول أن الحرب لم يبدأ رفضها إلا من قبل الجيل التالي لجيل علوية – بغدادي. لأن الحقيقة هي أنه بعدما كانت هناك أفلام وثائقية أولى عبرت – كثيراً أو قليلاً – عن افتتان ما بالحرب وتبرير «وطني» و «قومي» لها، راحت الأفلام الروائية منذ وجدت، ترفض الحرب بحيث يمكننا القول أن سينما رفض الحرب التي سيعود ويحققها مبدعون مثل زياد دويري («بيروت الغربية») أو سمير حبشي («الإعصار») أو رندة الشهال («حروبنا الطائشة») ثم لاحقاً دانيال عربيد («معارك حب») ونادين لبكي («هلق لوين») وصولاً إلى فيليب عرقتنجي والثنائي حاجي توما - جريج، كي لا نذكر أعمالاً مميزة لميشال كمون أو لارا سابا تبدو أكثر ابتعاداً عن الحرب بكثير، أو أعمالاً لاحقة تغوص في ما – بعد – الحرب مثل «عصفوري» لفؤاد عليوان... سينما رفض الحرب هذه إنما هي الابنة الشرعية لما كان قد أسس عليه مارون بغدادي وبرهان علوية. حتى وإن كانت السبل قد تفرقت بهذين فرحل بغدادي عن عالمنا مأسوفاً على إبداعه وشبابه في وقت كان يستعد للعودة إلى «سينما الحرب» الذاتية اللبنانية في سيناريو كتبه مع صديقه الروائي المميز حسن داود تكشف قراءته كم كان مميزاً وأساسياً، فيما صمت علوية وسط آلامه ومرارته بعدما حقق فيلم «خلص» الذي ظُلم نقدياً وجماهيرياً في شكل يعصى على الفهم!
سينما لفضح الحرب
أجل منذ أفلام برهان علوية ومارون بغدادي المبكرة، وصولاً إلى أفلام عربيد – لبكي – عرقتنجي... إلخ، رفضت السينما اللبنانية الحرب وأدانتها وكشفت عبثيتها وهذيانها – كان برهان علوية يقول دائماً أن السينما الوحيدة التي يمكنها أن تقول الحرب اللبنانية هي سينما تغوص في الهذيان حتى النخاع - غير أن تلك الإدانة لم تخل من تعامل مع قضية الحرب ليس بصفة الحرب مفروضة علينا من جانب الآخرين كما تقول الفصاحة السياسية الساذجة أو الخبيثة التي رأت بعد الحرب، ولا يزال أصحابها يقولون حتى الآن، أنها فُرضت على اللبنانيين من الخارج. فهذا غير صحيح والسينما لا تفتأ تقوله، السينما من «حروب صغيرة» إلى «هلق لوين؟». وفي هذا السياق سيدهش المرء إن هو راح يدرس الأفلام السينمائية اللبنانية التي تحققت وعُرضت منذ فيلمي برهان علوية ومارون بغدادي اللذين شكلا ولادتهما الجديدة بعد سنوات الحرب، الأولى.
فالسينما التي حققها، بعد الجيل الأول، سينمائيون من طينة جان كلود قدسي وبهيج حجيج وغسان سلهب وميشال كمون وسمير حبشي وفؤاد عليوان وصولاً إلى دانيال عربيد ونادين لبكي ولارا سابا، ودزينة من أصحاب أسماء أخرى لا تقلّ عن هؤلاء أهمية، من دون أن ننسى عشرات الشرائط القصيرة والمتوسطة الوثائقية والروائية التي وصلت عروضها إلى أوجها عند بداية سنوات التسعين في تظاهرة مدهشة نظمها اللبناني مختار كوكش، وجالت على أكثر من مدينة في العالم بدءاً من بيروت، هذه السينما قالت في مجموعها، تلك الحرب وفي معظم الأحيان من منطلق الرفض والإدانة... غير أنها في قولها هذا، لم تخرج عن تلك الأسس التي وضعها «الآباء المؤسسون» الذين سيكون من الإنصاف من جانبنا وفي حقهم، أن نؤكد مرة أخرى أنهم لم يتوقفوا عن إدانة الحرب ورفضها، ولكن دائماً من دون الوقوع في فخ النظر إليها على أنها من صنع الآخرين... فهي كانت حربنا، شارك فيها آخرون وموّلها آخرون، أججها آخرون واستفاد منها آخرون... لكنها كانت أولاً وأخيراً الكارثة التي جررناها على أنفسنا والمذبحة التي كانت، بتفاصيلها وبعدها الطائفي المرعب ونتائجها التي أدت إلى نسف كل أحلام التقدم والحرية للبنان، اللعنة التي لم يفتنا في طريقنا أن نهديها ببؤسها وقذارتها إلى المجتمعات المجاورة خالقين مصطلح «اللبننة» الذي بات ينطبق على معظم الحروب والكوارث العربية مضفياً عليها أبعاداً عنفية وطائفية ومذهبية وما إلى ذلك.
كل هذا شاهده السينمائيون اللبنانيون باكراً... بل شاهده مـــارون بغــــدادي في الكثير من أفلامه القصيرة التي سبقت «حـــروب صغيرة» وعبّر عنه في زوايا مختلفة وشديدة الذكاء في أعمال نعرف أنه حققها يومــذاك لحساب أحزاب ومنظمات كانت تريد منه أن يمجّد الحرب ويبررها، فإذا به يصور الفراغ الروحي في آخر لقطات «تحية إلى كمال جنبلاط» وحزن «أم الشهيد ووحدتها القاتلة» بدلاً من تمجيد موت ابنها في «كلنا للوطن» ومأساة الجنوب والمذابح الطائفية فيه في «الجنوب بخير طمنونا عنكم»، بخاصة في أفلام كان مطلوباً منها أن تعبئ الجماهير من أجل الحرب العادلة، فإذا بلغة بغدادي السينمائية تقول غير ذلك... تماما!
“الحياة” صحيفة يومية سياسية عربية دولية مستقلة. هكذا اختارها مؤسسها كامل مروة منذ صدور عددها الأول في بيروت 28 كانون الثاني (يناير) 1946، (25 صفر 1365هـ). وهو الخط الذي أكده ناشرها مذ عاودت صدورها عام1988.
منذ عهدها الأول كانت “الحياة” سبّاقة في التجديد شكلاً ومضموناً وتجربة مهنية صحافية. وفي تجدّدها الحديث سارعت إلى الأخذ بمستجدات العصر وتقنيات الاتصال. وكرست المزاوجة الفريدة بين نقل الأخبار وكشفها وبين الرأي الحر والرصين. والهاجس دائماً التزام عربي منفتح واندماج في العصر من دون ذوبان.
اختارت “الحياة” لندن مقراً رئيساً، وفيه تستقبل أخبار كل العالم عبر شبكة باهرة من المراسلين، ومنه تنطلق عبر الأقمار الاصطناعية لتطبع في مدن عربية وأجنبية عدة.
تميزت “الحياة” منذ عودتها إلى الصدور في تشرين الأول (أكتوبر) 1988 بالتنوع والتخصّص. ففي عصر انفجار المعلومات لم يعد المفهوم التقليدي للعمل الصحافي راوياً لظمأ قارئ متطلب، ولم يعد القبول بالقليل والعام كافياً للتجاوب مع قارئ زمن الفضائيات والإنترنت. ولأن الوقت أصبح أكثر قيمة وأسرع وتيرة، تأقلمت “الحياة” وكتابها ومراسلوها مع النمط الجديد. فصارت أخبارها أكثر مباشرة ومواضيعها أقصر وأقرب إلى التناول، وكان شكل “الحياة” رشيقاً مذ خرجت بحلتها الجديدة.
باختصار، تقدم “الحياة” نموذجاً عصرياً للصحافة المكتوبة، أنيقاً لكنه في متناول الجميع. هو زوّادة النخبة في مراكز القرار والمكاتب والدواوين والبيوت، لكنه رفيق الجميع نساء ورجالاً وشباباً، فكل واحد يجد فيه ما يمكن أن يفيد أو يعبّر عن رأيٍ أو شعورٍ أو يتوقع توجهات.